عرفت الأستاذ أسامة البحر حديثا جدا ، وفي سياق اهتمامه بالأدب واحتفائه بمجموعتي القصصية الذي يأتي ضمن رعايته المخلصة للصالون الثقافي للكاتب علاء الأسواني ، وكانت دهشتي كبيرة عندما عرفت أنه قد فقد حديثا زهراته الثلاث الجميلات في واحدة من مآسي مسلسل حوادثنا العبثية ، ولكن هاهو يقرأ ويتحمس وينتصر للفن الجميل ويجمع شمل الشباب حوله ، ولا شك أنه يقوم بأجمل أنواع المقاومة الإنسانية لهذه الخطوب القمينة بتقويض البشر . ولما كنت لا أملك من كلمات العزاء ما أجده ملائما لمصاب كهذا ، ولا كذلك ما أجده ملائما من كلمات السخط على من يزجون بنا في أهوال كوارث كهذه ، فأرجو أن تكون مساهمتي بإلحاق قصتي (شاب وفتاة ) بهذه المدونة تعويضا عن الخرس الذي يستبد بي في هذه المواقف ، خاصة وقد شرفاني الأستاذ أحمد الخميسي والأستاذ أسامة البحر بترشيحها لتكون أول مساهمة أدبية في هذه المدونة ، إيمانا بدور الأدب في حياتنا وتأكيدا على قدرة الإبداع على مساندتنا ودعمنا و إثراء حياتنا بالتأمل ومحاولات الإدراك وغسل قلوبنا بمتعة التلقي ، ولأن الفن يظل أحد أهم الحصون التي نحتمي بها في مواجهة القبح والقسوة والشرور . وأتمنى أن أكون بإضافة هذا العمل الأدبي هنا قد أضأت شمعة لهذه الأرواح البريئة بجوار ما أضاءه أحباؤهم وأصدقاؤهم من الشموع
آمال الميرغني
شــــاب و فتـــــــاة
بدأ ذلك في ظهر يوم قائظ في أول الصيف ، حين أستدرجهما حلمهما الذي تأجل طويلا بأن يكونا وحدهما لبعض الوقت . كانت هي قد دبرت أمر المفتاح منذ وقت طويل ، ولكنهما كانا كلما ألتقيا يؤجلان ذهابهما ، حتى أتى ذلك اليوم الذي حسم فيه القيظ مماطلتهما ، جاعلا الأحتماء من لهيب الشمس تحت أي سقف بمثابة أنقاذ لا يحتمل التأجيل .
لم تستطع أن تتذكر بسهولة كل التفاصيل المتعلقة بموقع شقة أخيها الذي هاجر الى الخارج منذ سنوات ، وكانت حينذاك ماتزال طفلة . لكنها بعد عدة جولات خاطئة بالشوارع المجاورة ، وجدت نفسها بجوار البناء . وبينما تجتاز مدخله ، بدت لها أعمدته الوردية وبلاطاته الكبيرة أليفة وحميمة .
تسللا تباعا ، محاذرين الألتقاء بسكان العمارة . وسيطرا بعناء شديد على رعشة أيديهما وهي تتبادل المفتاح اذ كانا راغبين في أن ينفتح لهما ذلك الباب بأقصى ما يمكن من الهدوء والسرعة .
كانت الشقة المهجورة منذ عدة أعوام في حال بائسة . غارقة تحت طبقات من الغبار وخيام العنكبوت. والأسوأ من ذلك ، هو ما أكتشفاه منذ الدقائق الأولى ، وهو أنها مقطوع عنها الماء والكهرباء. لكنها بالطبع كانت كافية لتحقيق حلمهما . جلسا على أريكة الصالون اليابسة بعد أن رفعا عنها الملاءة القديمة التي صارت بلون الرماد. وراحا يستنشقان الروائح الراكدة في الشقة، وأنتابهما أحساس غائر بالوحشة. لكن أيديهما التي لم تكف لحظة عن التجاذب والتماسك وألتماس العون ، فتحت الطريق أمامهما ، فتخلصا من الأحذية التي كانت أقدامهما تنصهر داخلها ، وغابا في عناق صاعق كالمفاجأة .
بعد قليل، صعد شخصان السلم وراحا يتحدثان بحدة عن أمر ما، فاضطربا وبدت لهما الأريكة التي كانت في مواجهة الباب غير آمنة، فبحثا عن غرفة النوم.
كان حبهما الذي يقترب من نهاية عامه الثاني ، قد نضج وسط ضجيج الأرصفة وزحامها . بين الحدائق والملاهي ودور السينما ، حيث كانا يختلسان اللمسات والقبلات كلما أمكنهما ذلك في تلك الزوايا والأركان التي نادرا ماتخلو من البشر في هذا البلد المزدحم . وكانا يقولان أن ما أمضياه معا ، يبدو لهما عمرا طويلا أضيف الى عمرهما السابق . وحين مضت بهما السيارة ، في ذلك اليوم ، في الطريق الى الشقة ، تملكهما شعور عميق بأنهما يتأهبان بحبهما لغوص أعمق في هذه الحياة . وكان ذلك مفرحا ومخيفا في آن.
جلسا على الفراش في غرفة النوم ، التي كانت مكدسة بالصناديق التي حوت مكتبة أخيها وأدوات مطبخه ، الى جانب بعض الأجهزة القديمة وعددا من السجاجيد المطوية ، وبدا الهواء لبضع دقائق أثقل من أن تمتصه رئتين مخلوق بعد أن نفثت فيه هذه الأشياء جميعا روائح هجرانها الطويل . و كانت النافذة الوحيدة مغلقة بأحكام وقد غطى خصاصها بأكمله بالأقمشة ، ومع ذلك فلقد كانت أكوام الغبار عصية على الفهم ، حتى أنهما أضطرا لأن يجرفانها من فوق الفراش بجاروف الأرضية . لكن ذلك كله قد جعلها أشبه بأحد المخازن النائية المهجورة ، وأسبغ عليها حالة من العزلة الآمنة ، فدخلا فيها الى عالمهما الجديد كرجل وأمرأة . ثم ضحكا من نفسهما فحين يكون لهما في المستقبل غرفة نوم حقيقية ، كم ستصبح عندها ذكرى مرتهما الأولى هنا مثيرة لتندرهما
قالت : ولكنها ستكون عزيزة علينا
فسأل : ترى حين يصبح لنا بيتا، سنأتي اليها من حين لآخر لنتذكر ؟
ولم تجب ، فقد نامت من فورها مخدرة بالأرهاق ، و شدة الحر، وسرعان مالحق بها .
حين أستيقظا، كان الظلام في غرفة النوم يزحف فيخفي مساحات من جسديهما وأجزاء من وجهيهما ، فأضطر للخروج الى الصالة ليرى ساعته على هدى الضوء الشحيح بها . كانت تقترب من السابعة . وحينما عاد ، كانت تتقلب في الفراش . قالت بصوت ناعس :
- حلقي جاف ، مت من العطش
فقال وهو يحتضنها و ينهضها: كلها دقائق ثم تشربين
وأعقب هازا أياها بمرح : ولكن اصحي أولا
عدلا ثيابهما ، وبذلا كل ما وسعهما في نفض الغبارعنها ، ومحو ما علق منه برأسيهما وأهدابهما . وبعدأ ن أعادا كل مالمساه من أشياء الى ماكان عليه ، تحسسا طريقهما الى الباب بين أشباح الجدران وقطع الأثاث .
وعند الباب لم يجدا المفتاح . فتذكر أنه عند دخولهما أغلق به الباب وأنه وسط أرتباكه وضعه بجيبه . لكنه لم يجده بأي من جيوبه . فعادا يفتشان عنه في الطريق المؤدي الى غرفة ا لنوم . ثم بحثا فوق الفراش وبين الوسائد ، ولم يكن هناك أيضا . حاولا ترتيب أفكارهما ليتذكرا بدقة ما الذي حدث فور دخولهما . فتذكر أنه دخل الحمام ، وتذكرت أنها سمعت من هناك رنين قطعة نقود ، ولكنها أدركت الآن أنه رنين المفتاح . ذهبا الى هناك وكان الظلام قد أطبق تماما ، فمسحا البلاطات المتربة بأيديهما ، ود سا أذرعهما في المرحاض وسيطر عليهما الذعر .
مسحا بجنون كل قطعة أثاث بالبيت ، وجثيا يمسحان الأرض في غرفة النوم والصالة ، وحتى في المناطق التي لم يدخلاها في الشقة وأستنفدا خلال ذلك أعواد الثقاب القليلة المتبقية لديهما ، ثم سقطا منهكين .
قال : ليس أمامنا غير الأنتظار للغد . ولكن هل يأتون ويبحثون عنك هنا ؟
قالت شاردة: لا أظن، لن يخطر ببالهم أنني مازلت أذكر هذا المكان
ولما تحتم عليهما أن يقضيا الليل هنا، فقد راحا يقلبان في تدبير الحجج والأعذار التي سيقولانها في الغد لعائلتيهما ، وكيف سيدعمانها ، ومن الذي يمكنهما الأعتماد عليه من الأصدقاء حتى يكشفان سرهما له .
وهكذا قضيا ليلتهما الأولى بها ، يضنيهما الجوع والظمأ ، ويمرضهما الهواء الراكد والكوابيس .
في اليوم التالي نهضا مع بداية الضوء، وعاودا البحث بحماسة جديدة على هدى ضوء النهار. قلبا حشية الفراش وكادا يمزقانها . نفضا كل الملاءات المعفرة التي كانت تغطي الأثاث. وحركا كل قطعة أثاث بحذر وعناء ، وتقيآ أمعاءهما الخاوية وهما يتناوبان البحث في المرحاض والبالوعة ، وعادا الى الباب . فانهارت على المقعد وقالت ذاهلة :
- أننا لن نجده أبدا . لقد سقط في المرحاض أو في البالوعة أو الله يعلم ماذا ولن نجده أبدا
وأستسلمت للبكاء . تلفت حوله حائرا ثم قال
- ولكن لابد أن هناك وسيلة أخرى
وراح يبحث بين متعلقات البيت عما يمكن أستخدامه في فسخ الباب . لكنها لحقت به وسألته مضطربة :
- هل يمكنك أن تفعل ذلك بدون صوت ؟
توقف ونظر اليها طويلا ، متتبعا بخياله ذلك الضجيج الهائل الذي سيحدثه ، والذي قد لا ينجح مع ذلك في فتح الباب ، ولكنه سينجح بالطبع في جذب الجيران وتحلقهما عند الباب . لسوف يساعدونهما على الخروج ، بلا شك ، ولكنهم سيسمحون لأنفسهم بعد ذلك بالتصرف فيهما كيفما يشاءوا . هناك أحتمالات عديدة ، وكل منها أسوأ من الآخر، حتى أنه لايرغب في التفكير بأي منها كأمر يمكنهما أحتماله . كانت واقفة أمامه و سؤالها المرتجف مازال عالقا بشفتيها اليابستين المزرقتين ، وعيناها الملتمعتان رعبا تتلهفان على أجابته ، وأحس بالوهن في ساقيه فارتمى على مقعد قريب .
بعد قليل ، قررا أن يتفقدا النوافذ ، آملين أن يجدا خارجها مايمكنهما التعلق به ، كمخاطرة لامفر منها . و لكن كان عليهما أن ينتظرا للليل . فأمضيا بقية النهار ثملين بالنعاس الذي كان الطريقة الوحيدة للتغلب على ما يحسانه من تشوش و وهن ، بينما كانت أصوات أقدام الجيران وأحاديثهم ونداءاتهم لا تنقطع عن السلم .
وحين هدأت الأصوات وتباعدت ، نهضا ، وراحا يديران مقابض النوافذ ، ويفتحانها عن شقات ضيقة تسمح لهما بأن ينظران الى ماحولها. تطلعا مرارا ، بلهفة أولا ثم بتدقيق وتأن ، ليذعنا أخيرا الى أنه ليس ثمة شيء يمكنهما التعلق به . فعادا الى الفراش ، تعانقا ، وأجهشا طويلا حتى أسلمتهما الدموع للنوم ، مستسلمين بنومهما للغوص في ذلك المجهول الذي ينتظرهما .
وفي اليوم التالي صحيا عند المغرب ، لكنهما لم يستعيدا صحوهما تماما . وفي الليل أنتابتها رعشة وراحت تهذي ، فأفاق وتخبط في الظلام باحثا عما يدفئها به . سحب الملاءات المتربة ووضعها فوقها ، لكنها زادت من أرتعاشها ، فانسلت من بينها مبتعدة إلى طرف الفراش ، وتكورت على نفسها وغاصت في غيبوبتها .
في الصباح ، ماءت قطة ملتاعة على السلم ، وأغلق أحدهم نافذته بصخب ، وطفى صوت بعيد لنداء بائع خضار ، وعبر نفير واهن لسيارة بعيدة كأنما يمضي من الماضي الى الماضي . وكانا يقطعان غيبوبتهما من وقت لآخر ، فيهيمان بين الصالة والحمام وغرفة النوم ، ثم يعودان الى الباب ، حيث أستقرا أخيرا بجواره وعيونهما شاخصة اليه .
آمال الميرغني
No comments:
Post a Comment