أى كلمات ممكن أن يقولها المرء للصديق الفنان التشكيلى أسامة البحر وقد فقد زوجته وابنتيه فى حادث انهيار عمارة لوران بالإسكندرية ؟! انتهى ضحية لظلم فوق الطاقة ، أسر قلوب الناس بأخلاقه الدمثة وحساسيته الرقيقة ، وتحول فجأة إلى ما يشبه حطام رجل ، وهو الذى قضى سنين عددا يبحث فى مصر عن كل نقطة ضوء ، ويجمع الفراشات فى ألبوم ، ويجمع التفاصيل والصور، ويصدر أجندة سنوية بالألوان عن شخصيات تصنع الحياة ، فلم تعطه الدنيا سوى كأس موت مرير ، وكأن من حظ الذى يفعل الخير أن يلاقى الشر ، فهل يمكن لقلب الفنان أن يحتمل كل هذا الهم ؟، ربما ليس من حل آخر ، فمصر التى يحبها أسامة غير مصر التى نعرف ، مصر التى نحبها تحت الأنقاض ، وربما لا يستنقذها الحب بقدر ما يستعيدها الفعل ، ربما لا تستعيدها المحبة بقدر ما هى فى احتياج لمن يكره القتلة ، فثأر أسامة فى أسرته التى ّهبت فى غمضة عين ، والتى ماتت فى لحظة رعب ، وفقدت سكينتها بسكين الغدر ، ثأر أسامة ليس- فقط- مع صاحبة العمارة التى ازالت أعمدة الطابق الأول ، وليس -فقط- مع مهندس التنظيم المحبوس فى حى شرق، ولا مع ركام الموظفين والسيد المحافظ الذين أعطوا الضمير أجازة ، وتفرغوا لرعاية النهب العام ، وتخلفوا عن تنفيذ قرارات صدرت بإزالة 6500 عمارة آيلة للسقوط بالإسكندرية ! والحجة ! عدم توافر مساكن بديلة ، وفقر الناس الذين يعتصمون ببيوت هى أكوام تراب ، ويفضلون لقاء الموت مستورين على الذهاب للشارع مشردين ، فماذا كان يمكن أن يفعل أسامة ؟! وهو الفنان البرئ الذى يحترم القانون ؟ ويحلم بمصر جميلة نظيفة مبرأة من كل عيب ؟ ولم يقل له أحد إن الحلم عيب ، وإن كونك مصريا لا يتيح لك ترف الأحلام ، وكيف تحلم وألف سحابة سوداء تفصلك عن زرقة السماء الصافية ؟! كيف تحلم والسياف فوق رقبتك ، كيف تحلم وعمارات البلد كلها مهددة بانهيار، كيف تحلم والبلد كله على حافة موت مستعجل ؟! إن لم يكن من خوف القهر فمن خوف الفقر ، إن لم يكن فى قسم شرطة ففى المعتقل ، إن لم يكن بالغرق فبالمرض ، إن لم يكن فى قطار أو ميكروباص أو معدية ، فإن الموت - على أى حال - يتمتع بخدمة التوصيل للبيوت ، كيف تحلم وأنت تعيش فى بلد تحول إلى عزبة ؛ تسرقه العائلة ، ويسرقه الأصدقاء والمماليك ، ويتعاملون مع الشعب المصرى كنفايات بشر ، ويستقبلون موت المصريين كأحلى الأخبار ، ولا مانع عندهم من موت الآلاف والملايين خفضا للنسل ، لا مانع عندهم من موت المصريين خلاصا من عبء ومناظر سوء لا يحبها المليرديرات الجدد، ولا مانع عندهم من أن يحكموا خرابة ما دامت الشيكات محفوظة فى خزائن سويسرا ، وقد اغتالك الموت يا أسامة فى أعز ما تملك ، اغتالك الموت فى “منى” و “ندى” و “نهر” ، وترك لك بقع الدم بدلا من بقع الضوء التى كنت تحتفل بها ، ربما لأنك لا تحمل سيفا بل حملت الريشة ، ربما لأنك لم تصرخ ؛ واكتفيت بابتسامة الموناليزا …
الدستور
السبت 29 ديسمبر 2007
No comments:
Post a Comment